كان الجو عجيبًا ، وكأن السماء فتحت كل أبوابها مطرًا ، والأرض تفجرت عيونًا والبرد يجمد هواء المدينة ، ولكنها أصرت أن تذهب إلى عملها في موعدها ، إنها لم تعتد التخلف عن أداء مهامها الوظيفية ، ومداعبة زملائها بألفاظها الحانية الرقيقة ، وصوتها الناعم الذي ينطلق بكوبليهات غنائية خفيفة من حين إلى حين وكأنها ملخص المصنفات الفنية الغنائية . ركبت سيارتها الفارهة وقطعت شوارع المدينة التي لم تشرق الشمس عليها لكثافة الغيوم ، ولكن ذلك لم يمنعها من قيادتها الرعناء ، حتى الأمطار الغزيرة لم تمنعها لأنها كانت تقود وكأنها بمفردها في الطريق . وصلت إلى الهيئة الحكومية التي تعمل فيها وبمجرد دخولها خلعت عنها معطفها التي لم تصبه إلا قطرات قليلة ، وبدأت تدق الأرض كعادتها وكأنها تعزف عليها مقطوعة موسيقية يرقص عليها ذلك الجسد الممتلئ الطري ، تنطلق في وجهها تلك الابتسامة التي تغمر بها كل من يقابلها ، فتتبسم لهذا وترسل بغمزة لهذا أو لتلك ، أما هذه المرة فهي تصعد الدرج بمفردها تتكلم إلى نفسها فليس المكان كعادته ؛ فالأفراد الموجودون اليوم قليلون جدًا ... إن الكثيرين من معارفها غير موجودين في الموعد كالعادة ، فإلى من تتحدث في طريقها إلى غرفتها ... وتتساءل ... يا ترى هل زملائي في الغرفة ؟ وصلوا أم لا ؟ إنه لأمر محزن ألا يأتوا اليوم ... كيف سأقضي اليوم ؟ ربما يأتي الجميع بعد قليل ... ما زال الوقت مبكرًا . ما هذا ... إن أضواء الممرات لم تشعل بعد ؟ لابد أن العامل لم يأت هو الآخر . يا ترى من سيعد لي قهوة الصباح ؟ إن لم يأت كيف أعدها لنفسي ؟ ولكن المهم ... من الذي سيحكي لي أحدث نكتة إذا تغيب اليوم ؟ يبدو أن اليوم سيكون كئيبًا . وصلت إلى الغرفة وفتحت الباب حانقة . . . فجأة . . . صاحت : أنت هنا ؟
فأجاب : طبعًا يا مدام . . . يا صباح الورد والفل . فقالت : لم أكن أعتقد أن أحدًا هنا . . . لكن من الواضح أنك لا تحب تغيير نظام حياتك . فقال : هذه فرصتي يا مدام . . . فقد لا يأتي غيري . وضحك ضحكته المعتادة . جلست في مكانها المعتاد. . . مدت يديها إلى المكتب تداعب بعض الأوراق وهي تقول : على الرغم من أنني لم أقض في هذه الهيئة أكثر من شهر إلا أنني أشعر أن كل من في هذه الحجرة خفيفوا الظل . . . يتمتعون بروح الفكاهة على الرغم من كثرة الأعمال المسندة إليهم . . . لم أعد أشعر بالفراغ في حياتي . . . ابتسم قائلاً : لقد كان الجو باردًا ليلة البارحة . قالت : الجو دائمًا بارد . انفلتت منها الكلمة وكأنها نكتة ظريفة جعلته ينفجر بالضحك ويقهقه ويقول : آآآآه .
تعجبت من ضحكته وسألته : لماذا كل هذا الضحك ؟ قال : يا مدام أنا دارس علم نفس . قالت : صحيح ؟ لم أكن أعلم . قال : يا مدام انا أستطيع أن أقرأ في وجهك كل أفكارك . قالت : كل أفكاري ؟ قال : لا . بل كل تاريخك يامدام . . . أنا دارس علم نفس . ـ يعني تقدر تحس بي ؟
ـ يا مدام أنا أحس بك جدًا جدًا . . . فوق ما تتصورين .
ـ يا سلام ... تتبسم في دلالها المعتاد . ـ كل نظرة منك تحكي حكاية يا مدام . . . كل حركة منك تنفض حولك آمالاً وتطلعات قوية . . . كل حكاية تحكينها أو خبر في الجريدة تعيدينه علينا يقص ما في نفسك ويظهر خيالاتك .
ـ وهل لاحظ الجميع ذلك ؟ ـ يا مدام أنا دارس علم نفس . ـ قالت وهي تقف تاركة مكانها : الآن عرفت لماذا كنت تديم إلي النظر كثيرًا . . . تحاول أن تنفذ إلى أعماقي . . . صمتت . . . شردت بفكرها وهي تقبض على حافة المكتب . . . يدقق النظر فيها . . . ينقر على مكتبة بأظافره . . . دقاته كأنها موسيقا تصويرية لمشهد ترقب في فيلم من أفلام الأبيض والأسود المصرية . فجأة دخل العامل كعادته دون أن يطرق الباب مغنيًا : يا صباح الخير يلي معانا . . . فانتبهت ضاحكة وهي تغني : الفنجان غنى و صحانا . . . تناولت فنجانها المميز وكأنها استعادت كنزها المفقود من ألف عام وقالت : بسرعة . . . آخر نكتة . قال العامل : قالت إحداهن لزوجها : كلما اشتد برد الشتاء اشتد دفء المرأة ودلعها . قال الزوج : مش مهم الدفاية المهم اللي بيولعها . انفجرت بالضحك وهي تقول : دلعها . . دلعها . ولعها . . ولعها . انصرف العامل . التفتت إلى زميلها فوجدته كأن النكتة لم تؤثر فيه . . . توقفت عن الضحك . . . جلست في المقعد القريب منه . . . قالت وهي تتنهد وتهز رجليها مرتكنة بساعديها على مكتبه: وماذا يا دارس علم النفس ؟؟ ابتسم وقال : يا مدام واضح أنك ممتلئة بالمشاكل والهموم والأحزان . تنهدت وقالت : لم يخلق الهم إلا لي أنا وحدي ، لكني أشغل نفسي عن همومي بأشياء كثيرة ، ربما أكثرها تافه . . . اليوم عند الكوافير . . . غدًا عند صديقتي هذه . . . بعده عند أخرى . . . أدخل إلى سريري الساعة التاسعة مساءً . . . إني أنام كثيرًا لأحلم كثيرًا ، فحياتي كلها في الأحلام . . . كأن عقلي يبرمج كل ما يدور به وينتقل به وبي إلى عالم بعيد ألبي فيه كل رغباتي وأحيانًا ألتقي فيه بزوجي . . . أو ربما يراني من بعيد . . . أو أراه من بعيد . . . لكني أكون منشغلة بمن في الحلم عنه وأصارع نفسي كي أظهر له أنني أهتم به . . . لكني لا أستطيع . . . إن كثيرين في الحلم يبدون لي أهم من زوجي . سألها : أمازال زوجك في رحلاته التي لا تنتهي ؟ أجابت : إنها طبيعة عمله . . . ماذا نفعل ؟ قال : واضح يا مدام أنك تنتقمين منه في الحلم . بتعجب قالت : أنتقم منه ؟؟ أنا أحبه . أحبه جدًا . . . وهو يحبني . نعم يحبني . ثم بدت عليها علامات الدهشة الشديدة وهي تقول : الحياة والعمل والالتزامات فرضت علينا هذا . . . لكن . . . أنا أحبه . . . نعم أحبه .
ـ يا مدام : أنا دارس علم نقس . . . هذه ظاهرة كثيرًا ما تتكرر . . . نحن لا نستطيع أن نخدع عقلنا الباطن . . . ولا نستطيع أن نتحايل على المشاعر والإحساسات والرغبات المكبوتة بفعل الظروف المزعومة فكل المحاولات تكون ظاهرية . إنها قناع رقيق جدًا شفاف جدًا يفضح ما نعتقد أنه مستور تحته يا مدام .
ـ لا أنا أحبه . . . إن بيننا عشرة وقرابة .
ـ لا تكذبي على نفسك يا مدام . انتفضت واقفة جزعة . . . في هدوء سيطرت على انفعاله . . . جلست . . . أمسكت بفنجان القهوة . . . الفنجان فارغ إلا من الرواسب . . . أمعنت فيه النظر وكأنها تنظر في قاع جوانيتها . قالت : دعك من علم النفس وصدقني . . . صدقني . . . أنا أحبه . . . أحبه على الرغم من رحلاته . . . أنا فعلاً أحبه . شملها بحنان عينيه . . . غمرها بنظرة ساهمة كأنه يقتحمها . تتمتم : أحبه . أحبه . . . نعم نعم . أنا أحبه . . . إنه زوجي . . . زوجي رغم كل شيء . باغتها بهمس : متى كانت آخر مرة ؟
قالت وكأنها لا تشعر والكلام يسيل على شفتيها : منذ سنة ونصف . منذ 559 يومًا . قال وماذا تفعلين ؟
ـ أنام .
ـ وفي أيام عطلته ؟
ـ ينام في حجرته الخاصة .
ـ وماذا تفعلين ؟
ـ أحلم . ـ وأولادك؟
ـ فضلوا أن يعيشوا عند أمي ليتحاشوا ما ينشب من مشكلات بيني وأبيهم .
ـ ألم أقل لك أني دارس علم نفس ، وأني أستطيع أن أعرف ما يدور بداخلك .
ـ وهل عرفت ما يدور بداخلي ؟ بالله عليك لا تتمادى . . . أنا فعلاً أحبه .
ـ واضح . واضح . وهز رأسه مبتسمًا عن تنهيدة رقيقة حالمة محولاً الكلام إلى غير الموضوع . . . إن براعة الكوافير والماكيير واضحة يا مدام .
ـ وهل لفت ذلك انتباهك ؟ حملت حقيبة يدها ومعطفها تستعد للانصراف فلم يأت أحد من الزملاء . بل لم يأت الكثيرون من الموظفين ، فلم تزل السماء تمطر ما زال البرد يخيم على المدينة ، وقد اقترب وقت العمل من الانتهاء . حتى المدير لم يأت . . .ضاعت الفرصة على دارس علم النفس .
في السيارة كانت ترتسم خيالات كثيرة وكثيفة على الزجاج تأتي بها ماسحات المطر وتزيلها مع القطرات لتات بغيرها . . . كان احتكاك الماسحات بالزجاج يوحي لها بمشاهد وأصوات تفتقدها . . . إنها مازالت تسمع وترى خيالاتها وترسم أحلام ليلتها . . . إنها تصر على أن تكون هذه الليلة معوضة لكل الأيام والليالي الفائتة . . . إن الزوج سيعود من رحلته الليلة وستلتهمه التهامًا . وصلت إلى منزلها . . . فتحت الباب في هدوء شديد . . . دخلت في صمت أشد من الصمت الذي يعم المكان . . . بعد نصف ساعة خرجت من الحمام تلف نفسها . . . تفوح منها عطور كأنها صنعت لها خصيصًا . . . تتحرك في خفة كأنها فارقت الأربعين إلى العشرين . . . إنها ترى زوجها في كل مكان . . . ومن حولها . . . ومن تحتها . . . إنها تحلم بكل ما سيحدث في المساء . . . إنها تنتظر منتصف الليل . . . يدق جرس الباب . . . تنتبه . . . تتعجب . . . لا أحد يزورها . خصوصًا في هذا الوقت من الظهيرة ، وفي هذا الجو العجيب . . . لابد أنه زوجها . . . لابد أنه قدم موعد العودة . . . تفتتح الباب متحفزة . . . إنه هو . . . إنه دارس علم النفس . . . مد يده ليصافحها . . . مدت يدها في صمت لفهما . . . يغرقان في نظرة عميقة . . . أغلقا الباب . . . تلتهمه التهامًا وملأ الدفء المكان . . .
الكويت ـ2002