قصاصات في مهب الريح

مرحبا بك .. أنت ضيف على عقلى

الأحد، سبتمبر ٢٤، ٢٠٠٦

الترنيمة الثانية : ابن الطين

ترنيمة : ابن الطين
*********
إهداء لكل أحبائي
كل عام وأنتم بخير بمناسبة حلول الشهر الفضيل
**********
وجعي يمتد من عمق الأرض
يجري كنهرٍ
يرى حضن البحر انتحارا
جرى بالزلال يروي الجداب
ويلعق الأجاج
إذ حداه السعي .... انبهارا
بين بني الأطيان يجري بالحب نبع
أبدع الحزن مجراه
أراه اليوم بين الناس
أغوارا
**
والحزن مدخل الأفراح
والليل مجمع الآلام ..... طببها
لأن يلد الليل النهارا
**
فدر دورة الكون الفسيح
لن ترى من المقدار غير ما
قد رُصد أقدارا
**
فكن كالسماء القبة السوداء
في جنباتهالا تعدم الأفلاك الحوارا
**
كن كالنواعير دارت
واستدارت .... أمواهها
تمنح الجنات اخضرارا
**
كن بيدرًا للخير
لخزائن الله ..... إذ فُتحت
فكفك......كف الله
كن بالخير ممطارا
كن كما كنت لحظة التكوين
انعجانٌ
أتراك كنت مختارا ؟؟!!
**
كن كما احتواك الكون
في الرحم الحصين
ورحم الأرض لن يطيل انتظارا
**
والجسر إن تنظر طويلٌ
وإن تعِ الجسر
ترَ الجسر انحدارا
**
والقبر :
قبران... لو تدرك مراميكَ
كفاك بالوجود اغترارا
قبر النهاية العصماء
لا اختيار له
وقبر العيش
أراك تدخله اختيارا
**
حين هوت شرائع الحب
بين الأنام النيام
وهب النير المحموم
إعصارا
**
تَبَدَلَت .... كما تبدلتَ
الحمائم البيض ما عادت
غير رمزِ عليل
يتوجع انكسارا
والزنابق ملتك يا ابن الطين
تقطفها
والياسمين يبكي
وأنت تذبح الأشجارا
وتغتصب البكارة بالجهالة
والطفولة
ما عادت تُعطل في كفيك القنابل
والدمارا
**
والحرب:
حرب النفس تتركها
لحرب الله
ألا تراكَ بحرب الله جبارا ؟؟!!
**
أبكل ملل الله قد أطاحت رياح حقدك
أم عدمت المحبة الأنصارا ؟؟!!
**
عد كما كنت يا ابن الطين
سلالة
تستل الحياة منك وجودها
لتوجد الأخيارا
**
وانفض سحابات غلك
كي نرىفيك نور الله ..... ولا
تُخمد الأنوار ..... إصرارا
المنصورة
6/7/2006

الأحد، سبتمبر ٠٣، ٢٠٠٦

الـــــدفء

كان الجو عجيبًا ، وكأن السماء فتحت كل أبوابها مطرًا ، والأرض تفجرت عيونًا والبرد يجمد هواء المدينة ، ولكنها أصرت أن تذهب إلى عملها في موعدها ، إنها لم تعتد التخلف عن أداء مهامها الوظيفية ، ومداعبة زملائها بألفاظها الحانية الرقيقة ، وصوتها الناعم الذي ينطلق بكوبليهات غنائية خفيفة من حين إلى حين وكأنها ملخص المصنفات الفنية الغنائية . ركبت سيارتها الفارهة وقطعت شوارع المدينة التي لم تشرق الشمس عليها لكثافة الغيوم ، ولكن ذلك لم يمنعها من قيادتها الرعناء ، حتى الأمطار الغزيرة لم تمنعها لأنها كانت تقود وكأنها بمفردها في الطريق . وصلت إلى الهيئة الحكومية التي تعمل فيها وبمجرد دخولها خلعت عنها معطفها التي لم تصبه إلا قطرات قليلة ، وبدأت تدق الأرض كعادتها وكأنها تعزف عليها مقطوعة موسيقية يرقص عليها ذلك الجسد الممتلئ الطري ، تنطلق في وجهها تلك الابتسامة التي تغمر بها كل من يقابلها ، فتتبسم لهذا وترسل بغمزة لهذا أو لتلك ، أما هذه المرة فهي تصعد الدرج بمفردها تتكلم إلى نفسها فليس المكان كعادته ؛ فالأفراد الموجودون اليوم قليلون جدًا ... إن الكثيرين من معارفها غير موجودين في الموعد كالعادة ، فإلى من تتحدث في طريقها إلى غرفتها ... وتتساءل ... يا ترى هل زملائي في الغرفة ؟ وصلوا أم لا ؟ إنه لأمر محزن ألا يأتوا اليوم ... كيف سأقضي اليوم ؟ ربما يأتي الجميع بعد قليل ... ما زال الوقت مبكرًا . ما هذا ... إن أضواء الممرات لم تشعل بعد ؟ لابد أن العامل لم يأت هو الآخر . يا ترى من سيعد لي قهوة الصباح ؟ إن لم يأت كيف أعدها لنفسي ؟ ولكن المهم ... من الذي سيحكي لي أحدث نكتة إذا تغيب اليوم ؟ يبدو أن اليوم سيكون كئيبًا . وصلت إلى الغرفة وفتحت الباب حانقة . . . فجأة . . . صاحت : أنت هنا ؟
فأجاب : طبعًا يا مدام . . . يا صباح الورد والفل . فقالت : لم أكن أعتقد أن أحدًا هنا . . . لكن من الواضح أنك لا تحب تغيير نظام حياتك . فقال : هذه فرصتي يا مدام . . . فقد لا يأتي غيري . وضحك ضحكته المعتادة . جلست في مكانها المعتاد. . . مدت يديها إلى المكتب تداعب بعض الأوراق وهي تقول : على الرغم من أنني لم أقض في هذه الهيئة أكثر من شهر إلا أنني أشعر أن كل من في هذه الحجرة خفيفوا الظل . . . يتمتعون بروح الفكاهة على الرغم من كثرة الأعمال المسندة إليهم . . . لم أعد أشعر بالفراغ في حياتي . . . ابتسم قائلاً : لقد كان الجو باردًا ليلة البارحة . قالت : الجو دائمًا بارد . انفلتت منها الكلمة وكأنها نكتة ظريفة جعلته ينفجر بالضحك ويقهقه ويقول : آآآآه .
تعجبت من ضحكته وسألته : لماذا كل هذا الضحك ؟ قال : يا مدام أنا دارس علم نفس . قالت : صحيح ؟ لم أكن أعلم . قال : يا مدام انا أستطيع أن أقرأ في وجهك كل أفكارك . قالت : كل أفكاري ؟ قال : لا . بل كل تاريخك يامدام . . . أنا دارس علم نفس . ـ يعني تقدر تحس بي ؟
ـ يا مدام أنا أحس بك جدًا جدًا . . . فوق ما تتصورين .
ـ يا سلام ... تتبسم في دلالها المعتاد . ـ كل نظرة منك تحكي حكاية يا مدام . . . كل حركة منك تنفض حولك آمالاً وتطلعات قوية . . . كل حكاية تحكينها أو خبر في الجريدة تعيدينه علينا يقص ما في نفسك ويظهر خيالاتك .
ـ وهل لاحظ الجميع ذلك ؟ ـ يا مدام أنا دارس علم نفس . ـ قالت وهي تقف تاركة مكانها : الآن عرفت لماذا كنت تديم إلي النظر كثيرًا . . . تحاول أن تنفذ إلى أعماقي . . . صمتت . . . شردت بفكرها وهي تقبض على حافة المكتب . . . يدقق النظر فيها . . . ينقر على مكتبة بأظافره . . . دقاته كأنها موسيقا تصويرية لمشهد ترقب في فيلم من أفلام الأبيض والأسود المصرية . فجأة دخل العامل كعادته دون أن يطرق الباب مغنيًا : يا صباح الخير يلي معانا . . . فانتبهت ضاحكة وهي تغني : الفنجان غنى و صحانا . . . تناولت فنجانها المميز وكأنها استعادت كنزها المفقود من ألف عام وقالت : بسرعة . . . آخر نكتة . قال العامل : قالت إحداهن لزوجها : كلما اشتد برد الشتاء اشتد دفء المرأة ودلعها . قال الزوج : مش مهم الدفاية المهم اللي بيولعها . انفجرت بالضحك وهي تقول : دلعها . . دلعها . ولعها . . ولعها . انصرف العامل . التفتت إلى زميلها فوجدته كأن النكتة لم تؤثر فيه . . . توقفت عن الضحك . . . جلست في المقعد القريب منه . . . قالت وهي تتنهد وتهز رجليها مرتكنة بساعديها على مكتبه: وماذا يا دارس علم النفس ؟؟ ابتسم وقال : يا مدام واضح أنك ممتلئة بالمشاكل والهموم والأحزان . تنهدت وقالت : لم يخلق الهم إلا لي أنا وحدي ، لكني أشغل نفسي عن همومي بأشياء كثيرة ، ربما أكثرها تافه . . . اليوم عند الكوافير . . . غدًا عند صديقتي هذه . . . بعده عند أخرى . . . أدخل إلى سريري الساعة التاسعة مساءً . . . إني أنام كثيرًا لأحلم كثيرًا ، فحياتي كلها في الأحلام . . . كأن عقلي يبرمج كل ما يدور به وينتقل به وبي إلى عالم بعيد ألبي فيه كل رغباتي وأحيانًا ألتقي فيه بزوجي . . . أو ربما يراني من بعيد . . . أو أراه من بعيد . . . لكني أكون منشغلة بمن في الحلم عنه وأصارع نفسي كي أظهر له أنني أهتم به . . . لكني لا أستطيع . . . إن كثيرين في الحلم يبدون لي أهم من زوجي . سألها : أمازال زوجك في رحلاته التي لا تنتهي ؟ أجابت : إنها طبيعة عمله . . . ماذا نفعل ؟ قال : واضح يا مدام أنك تنتقمين منه في الحلم . بتعجب قالت : أنتقم منه ؟؟ أنا أحبه . أحبه جدًا . . . وهو يحبني . نعم يحبني . ثم بدت عليها علامات الدهشة الشديدة وهي تقول : الحياة والعمل والالتزامات فرضت علينا هذا . . . لكن . . . أنا أحبه . . . نعم أحبه .
ـ يا مدام : أنا دارس علم نقس . . . هذه ظاهرة كثيرًا ما تتكرر . . . نحن لا نستطيع أن نخدع عقلنا الباطن . . . ولا نستطيع أن نتحايل على المشاعر والإحساسات والرغبات المكبوتة بفعل الظروف المزعومة فكل المحاولات تكون ظاهرية . إنها قناع رقيق جدًا شفاف جدًا يفضح ما نعتقد أنه مستور تحته يا مدام .
ـ لا أنا أحبه . . . إن بيننا عشرة وقرابة .
ـ لا تكذبي على نفسك يا مدام . انتفضت واقفة جزعة . . . في هدوء سيطرت على انفعاله . . . جلست . . . أمسكت بفنجان القهوة . . . الفنجان فارغ إلا من الرواسب . . . أمعنت فيه النظر وكأنها تنظر في قاع جوانيتها . قالت : دعك من علم النفس وصدقني . . . صدقني . . . أنا أحبه . . . أحبه على الرغم من رحلاته . . . أنا فعلاً أحبه . شملها بحنان عينيه . . . غمرها بنظرة ساهمة كأنه يقتحمها . تتمتم : أحبه . أحبه . . . نعم نعم . أنا أحبه . . . إنه زوجي . . . زوجي رغم كل شيء . باغتها بهمس : متى كانت آخر مرة ؟
قالت وكأنها لا تشعر والكلام يسيل على شفتيها : منذ سنة ونصف . منذ 559 يومًا . قال وماذا تفعلين ؟
ـ أنام .
ـ وفي أيام عطلته ؟
ـ ينام في حجرته الخاصة .
ـ وماذا تفعلين ؟
ـ أحلم . ـ وأولادك؟
ـ فضلوا أن يعيشوا عند أمي ليتحاشوا ما ينشب من مشكلات بيني وأبيهم .
ـ ألم أقل لك أني دارس علم نفس ، وأني أستطيع أن أعرف ما يدور بداخلك .
ـ وهل عرفت ما يدور بداخلي ؟ بالله عليك لا تتمادى . . . أنا فعلاً أحبه .
ـ واضح . واضح . وهز رأسه مبتسمًا عن تنهيدة رقيقة حالمة محولاً الكلام إلى غير الموضوع . . . إن براعة الكوافير والماكيير واضحة يا مدام .
ـ وهل لفت ذلك انتباهك ؟ حملت حقيبة يدها ومعطفها تستعد للانصراف فلم يأت أحد من الزملاء . بل لم يأت الكثيرون من الموظفين ، فلم تزل السماء تمطر ما زال البرد يخيم على المدينة ، وقد اقترب وقت العمل من الانتهاء . حتى المدير لم يأت . . .ضاعت الفرصة على دارس علم النفس .
في السيارة كانت ترتسم خيالات كثيرة وكثيفة على الزجاج تأتي بها ماسحات المطر وتزيلها مع القطرات لتات بغيرها . . . كان احتكاك الماسحات بالزجاج يوحي لها بمشاهد وأصوات تفتقدها . . . إنها مازالت تسمع وترى خيالاتها وترسم أحلام ليلتها . . . إنها تصر على أن تكون هذه الليلة معوضة لكل الأيام والليالي الفائتة . . . إن الزوج سيعود من رحلته الليلة وستلتهمه التهامًا . وصلت إلى منزلها . . . فتحت الباب في هدوء شديد . . . دخلت في صمت أشد من الصمت الذي يعم المكان . . . بعد نصف ساعة خرجت من الحمام تلف نفسها . . . تفوح منها عطور كأنها صنعت لها خصيصًا . . . تتحرك في خفة كأنها فارقت الأربعين إلى العشرين . . . إنها ترى زوجها في كل مكان . . . ومن حولها . . . ومن تحتها . . . إنها تحلم بكل ما سيحدث في المساء . . . إنها تنتظر منتصف الليل . . . يدق جرس الباب . . . تنتبه . . . تتعجب . . . لا أحد يزورها . خصوصًا في هذا الوقت من الظهيرة ، وفي هذا الجو العجيب . . . لابد أنه زوجها . . . لابد أنه قدم موعد العودة . . . تفتتح الباب متحفزة . . . إنه هو . . . إنه دارس علم النفس . . . مد يده ليصافحها . . . مدت يدها في صمت لفهما . . . يغرقان في نظرة عميقة . . . أغلقا الباب . . . تلتهمه التهامًا وملأ الدفء المكان . . .

الكويت ـ2002